منذ اللحظة التي جلس فيها البابا فرنسيس على الكرسي الرسولي، أدرك المؤمنون في العالم أن الكنيسة الكاثوليكية تدخل عهدًا استثنائيًا. عهد يشبه الإنجيل الذي بشّر به، يشبه الفقراء الذين حمل همّهم، ويشبه يسوع الذي سار على خطاه متواضعًا، محبًا، صادقًا.

كان البابا فرنسيس أكثر من حبر أعظم؛ كان أبًا يربّت على وجع البشرية، وراعيًا يجوب أقاصي الأرض حاملاً رسائل السلام، والرحمة، والحوار. لم تخلُ زياراته من المعاني العميقة: من ركوعه لتقبيل أقدام زعماء متخاصمين في السودان، إلى احتضان الأطفال والمعوّقين في ساحة القديس بطرس، إلى بكائه بصمت أمام جدار الفصل في بيت لحم، كان يصلي بالفعل قبل أن يصلي بالكلام.

لم ينتظر البابا فرنسيس كثيرًا ليكسر التقاليد التي حجّرت صورة البابا لعقود، فاختار أن يسكن بيتًا عاديًا بدل القصر الرسولي، وتخلى عن سيارة الليموزين الفاخرة ليركب سيارة بسيطة. أراد أن يكون قريبًا من الناس، لأن الله بنظره ليس في العُلى فقط، بل في وجوه المنسيين على الأرصفة، وفي دموع المهاجرين على الشواطئ، وفي أنين المساجين خلف القضبان.

وفي كل مناسبة دينية، كان حضوره مختلفًا: لا بهرجة، بل خشوع؛ لا استعراض، بل حضور قلبي صادق. جال في العالم مبشّرًا بعالمٍ أكثر عدلاً، وأكثر احتضانًا للضعفاء، وأكثر استقامةً في وجه الحروب والتطرف والفساد. دعا إلى العناية بالخليقة، محذرًا من كوارث البيئة، وكتب “كن مسبّحًا” ليكون إنجيلًا بيئيًا في عصر التغير المناخي.

لم يغب عن وجدان الشعوب، ولم يتردّد في الانحياز إلى قضاياهم. نادى بالسلام في أوكرانيا، وبالعدالة في الأرض المقدسة، وبالمصالحة في أميركا اللاتينية، وبالرجاء في إفريقيا المنهكة. أعاد المعنى العميق لكلمة “بابا”، أي الأب، لا المتسلّط بل المُحب، لا الحاكم بل الخادم.

وفي لبنان، لم ينسَ شعبه في المحنة، ولا صرخته في الانهيار، بل وجّه رسائل دعم، وبعث موفديه، وفتح أبواب الفاتيكان للأصوات التي تبحث عن بصيص أمل. كان يريد للبنان أن يبقى رسالة، كما وصفه يوحنا بولس الثاني، ورسالة لا تموت.

اليوم، بوفاة البابا فرنسيس، لا تُطوى صفحة، بل تُرفع إلى السماء صفحة من نور. مات الجسد، لكن الروح التي نفخها في الكنيسة والعالم باقية، تُلهِمُ من بعده، وتضيء درب من يسيرون على درب الحق والرحمة.

نعم، قداستك، لقد كنتَ صوت الضمير في زمن الضياع، وصوت المحبة في زمن الانقسام، وصوت المسيح في زمن الضجيج. كنتَ لنا بابا وراعيًا، أخًا وصديقًا، مرشدًا وقائدًا.

واليوم، إذ يودّعك العالم، لا نبكيك كمن لا رجاء له، بل نودّعك كما يُودَّع قديس، تاركًا لنا وصيّته الكبرى: “لا تخافوا من الحنان، لا تخافوا من الحب.”

فلترقد بسلام، يا من أحببت حتى النهاية، وسيكتب التاريخ عنك وعن عظمتك الروحية بأحرف من صلاة ودموع ومجد…
البابا فرنسيس
لقد كنتَ، بحق، “خادم خدام الله”.
#البابا_فرنسيس

شاركها.

إجمالي عدد زوار الموقع: 123,595